العودة من هناك

تمرّ بي لحظاتٌ أشعر فيها وكأنني غريب عن هذا العالم، خارج إطاره المألوف. يحدث ذلك أحيانا بينما أُطارد فكرة عابرة، أو ببساطة وأنا أعبر الشارع العام أو أتحدث مع أحدهم في أي مكان. فجأة، تومض في رأسي فكرة هائلة كنافذة شاسعة تنفتح عليّ، فأطلّ بفكري لأستكشف ما خلفها. وربما أظل ألاحقها طوال اليوم حتى تتوهج الأنوار في رأسي، وتتقد مصابيح الدهشة، ويغمرني سَنا الاكتشاف، فأشعر وكأنني أقف على أعتاب عالم أوسع، أكثر عمقا وسحرا مما تدركه الحواس
اليوم، وأنا جالس في المقهى، لاحت أمامي طفلة تمسك بأنامل أمها، تسيران الهوينى على الرصيف المقابل للمقهى. يا له من مشهد بسيط في ظاهره، وعميق الأثر في نفسي. كانت عيناها زرقاوين، كزرقة بحر عميق، ينبعث منهما صفاء نقي لم تلوّثه تقلبات الزمن… وابتسامتها كانت رقيقة وخجولة، كزهرة تتفتح على استحياء تحت أولى خيوط الفجر، جعلتني أتمنى لو كانت تبتسم لي أنا أي
في تلك اللحظة، تلاطمت في ذهني أمواج جدل عاتية بين أفكار تؤمن بنظرية التطور، التي كانت محور نقاشات طويلة بيني وبين صديق حميم لي – هو البطل الحقيقي لهذه القصة- وأفكارٍ عصيّة ترفضها بإصرار، وكانت صدى قناعاتي أنا… مستحيل! مستحيل أن تكون نظرية التطور قد أفرزت هذا الجمال المتفرّد. كيف لقوانين الطبيعة الجافة، الصمّاء، أن تنسج هذا الكمال المتقن؟ لا… الأمر أعقد وأعمق وأسمى من أن يُختزل في معادلات جامدة أو هرطقات يلفظها العقل بلا مبالات. ثمة سرٌّ أعظم، لغزٌ ينفلت من قبضة المنطق ولا تطاله أدوات الفكر، لكنه يتجلّى بوضوح في تلك البراءة المتلألئة، وفي ذلك الجمال الذي تعجز عن تأويله كل الطروحات
أن تنظم الحمير شعرا أو أن تُحدث القِرَدَة ثورة في فهمنا لنظرية الكم، أهون بكثير من أن تنحت الصدفة ملامح هذا الوجه، أو أن تزرع تلك النظرة، أو أن تخطّ بتلك الابتسامة قصيدة تعجز عن نظمها أعظم الأقلام. هناك، خلف تلك العينين، يكمن سرٌّ أعجز عن فهمه، سرٌّ يُشبه غموض هذا العالم… مستتر، ساحرٌ، وأبدي
كيف لحبّات زيتون كانت معلّقة على شجرة، أو قطعة خبز كانت تتمايل في سنابل قمح، أو شريحة لحم أُخذت من فخذ خروف، أن تجتمع على مائدة أمي، فتتناولها فتتحوّل في بطنها، في بضعة أشهر، إلى أنا؟! أيُّ إعجازٍ باهر هذا الذي يُذيب الجماد وينسج منه كائنًا حيًا ينبض بالحياة؟ مستحيل! من غير المعقول أن تكون هذه التحوّلات العجيبة مجرّد أفعال صمّاء تحكمها قوانين عمياء! لا… الأمر أعقد وأعمق وأخطر مما قد يتخيله البعض. هناك لغزٌ يفوق كل خيال، وسرٌّ يتجاوز فهم كل العقول، ومع ذلك، يتجلّى بوضوح في هذا الكيان الذي أنا عليه الآن
صديقي هذا كان يحاورني بأسلوب فريد، يمزج بين خفة التعبير وعمق الفكرة. كان يقذف بحججه وكأنها مزاحٌ ذكي، عابر لكنه مثقل بالدلالات، يتنقل بين الأفكار برشاقة من يعرف طريقه جيدا، فلا تدري أهو يلاعب المعاني أم يغوص فيها بمهارة. ومع كل كلمة ينطق بها، كنت أشعر وكأنني أسير في طريق مزدان بالزهور، تخفي بين بتلاتها أشواكا دقيقة يصعب ملاحظتها
أتذكر يوما حين أخبرته بأن الكون لا يمكن أن يكون وليد المصادفة، فأجابني بابتسامة هادئة
« وما أدراك أن المصادفة ليست أذكى من أن تُفهم؟ ربما نحن فقط نُحب أن نُلبس الأشياء ثوب الغاية لنشعر بنوع من الطمأنينة »
قالها ببساطة عابرة، لكنها كانت كفيلة بأن تزرع في داخلي سؤالا لم ينطفئ بعد. هكذا كان دائما، يحوّل أكثر الأفكار تعقيدا إلى كلمات تبدو خفيفة، لكنها تنفذ عميقا كالسهم في داخل الفكر
وفي موقف آخر، كنت أحدثه بانبهار عن دقة قوانين الفيزياء وتناسقها المذهل، وكيف أن هذا النظام البديع يستحيل أن يكون بلا خالق أو مُصمّم. ابتسم ابتسامة خفيفة وقال
« انظر إلى النهر كيف يشق طريقه بين الصخور، لا خريطة تهديه ولا يد توجهه، ومع ذلك يصل حيث يجب أن يصل. أليس من الممكن أن تسير الأشياء بلا حاجة لمن يقودها؟ »
قالها وهو يرمق الأفق البعيد، وكأن النهر الذي تخيّله يجري أمامنا. كلماته جاءت ناعمة، لكنها تحمل في أعماقها موجة صامتة من التحدي، تدفعني للتفكير مرارا. لم يكن يحاول دحض قناعتي، بل كان ينسج حولها خيوط تساؤل دقيقة، كمن يفتح نافذة صغيرة في جدار مغلق، لعلّ ضوءا مختلفا يتسلل منها.
وفي نقاش آخر، دار بيننا حديث طويل عن نشأة الإنسان، وكنت أرفض فكرة أن تكون الحياة وليدة تطوّر أعمى بلا توجيه أو قصد. فابتسم كعادته وقال
« تأمل كيف تتشكّل الجبال عبر ملايين السنين من تصادم الصفائح الأرضية، بلا نية ولا غاية، لكنها تقف شامخة تُدهشنا بجمالها. فلماذا يبدو لك تطوّر الحياة بعيدا عن هذا المنطق؟ ربما التغيير البطيء أبرع من أي يد خفية. »
قالها وهو ينظر إلى صورة جبل معلقة على الجدار، كأن تفاصيلها تدعم فكرته. كانت كلماته ناعمة، لكنها تنطوي على تحدٍّ صامت، كمن يزرع بذرة شك صغيرة في تربة يقين صلب. لم يكن يحاول أن يُلغي قناعتي، بل كان ينسج أسئلته بخفة، يدعوني لأن أتوقف لحظة وأتأمل الاحتمالات التي لم أفكر بها من قبل
سنوات طويلة مضت ونقاشاتنا متواصلة، ظلت مشتعلة كجمر تحت الرماد، مهما عصفت بها رياح الزمن. ورغم أن ظروف الحياة فرقت بيننا، بقيت تلك الصلة الخفية تربطني به، حبلا متينا لا ينقطع. كنا نتبادل الأحاديث عبر الواتساب، نرسل لبعضنا روابط الكتب، نقرؤها بنهم ونغوص في تفاصيلها، ثم نعود لنغزل من أفكارها نقاشات لا تنتهي
كانت علاقتنا مزيجا نادرا من الفكر والود، رابطا صافيا لم يعكره الزمن… حتى وقع ذلك الحادث الذي بعثر كل شيء، وأعاد ترتيب ملامح هذه الحكاية. غاب عني ستة أشهر كاملة، لم يُجب خلالها على اتصالاتي، وكأن حجابًا كثيفا أسدل بيننا.. سألت عنه الأصدقاء، فجاءت إجاباتهم باردة: « لا يرد على أحد. » كان صمته ثقيلا، يوحي بشيء أعمق من مجرد خصام
حتى أتى ذلك اليوم… رنّ جرس الباب فجأة. تقدّمت بخطى متثاقلة، وقلبي تعتصره مشاعر غامضة. فتحت الباب، فإذا به يقف أمامي، حيًّا يُرزق، يبتسم ابتسامة شاحبة وكأن شيئًا لم يحدث بيننا
تجمدت في مكاني. أردت أن أسأله
« أين كنت؟ »
لكن الكلمات خذلتني. كان واقفًا هناك، صامتا، وكأن غيابه لم يكن سوى صفحة طويت دون تفسير
لاحظت أن صديقي لم يعد كسابق عهدي به… خف بريق عينيه، وتلاشت تلك الحيوية التي كانت تملأ حضوره. اختفت نكاته العفوية، وذابت ثرثرته التي كانت تملأ الأجواء دفئا. حاولت أن أسترجع معه بعضا من أحاديثنا القديمة، مواضيع كنا نخوض فيها بشغف لا ينضب، لكنه كان يكتفي بابتسامة باهتة وبضع كلمات مقتضبة، كأنه لا يرغب في مواصلة الكلام أو كأن الكلمات أصبحت عبئا ثقيلًا عليه
كان صمته يقول أكثر مما قد تبوح به الكلمات، وصورته أمامي لم تعد سوى ظل شاحب لما كان عليه في الماضي. فجأة، وجدت نفسي أنطق دون أن أشعر
« ما بك يا صديقي؟ تغيّرت… لم تعد كما كنت »
كانت كلماتي تخرج بعفوية، كأنها انزلقت من قلبي قبل أن ينطقها لساني. نظر إليّ نظرة جادة، عميقة بشكل أربكني، وقال بهدوء
« أنت على حق يا صديقي… على حق في نظرتك »
حدّقت فيه بدهشة، لم أفهم قصده، فسألته باستغراب
« أيّة نظرة تقصد؟ »
رمقني بنظرة مثقلة بالحزن، وعيناه تلمعان بدمع خفيف بالكاد يظهر، ثم همس بصوت خافت:
« أنت على حق بإيمانك »
تلك الكلمات علِقت في الهواء، ثقيلة وصامتة، كأنها تحمل بين طيّاتها شيئا أكبر من أن يُقال. شعرت أن وراءها قصة لم تُروَ بعد، وجرحا يأبى أن يندمل
ظللت صامتا للحظات، أتأمل هذا التحول المفاجئ الذي ألمَّ به، مستغربا كيف انطفأت تلك الشعلة التي كانت تملأ حديثه. دون أن أفكر، بادرته قائلا بنبرة مازحة تخفي دهشتي
« يبدو أنك وقعت في كتاب غيَّر أفكارك… ما ترك لك ما ترُدُّ به عليه! أخبرني، ما اسم هذا الكتاب الذي قلبك رأسًا على عقب بهذه السرعة؟ »
نظر إليّ مطولا، وكأن عينيه تبحثان في وجهي عن جواب ما، يتردد بين أن يفتح لي قلبه أو يُبقي ما بداخله طي الكتمان. ثم حدّق في عينيّ بثبات، وقال بصوت عميق يحمل ثقل التجربة
« هذه المرة يا صديقي، الحياة لقّنتني درسا لم أكن لأهضمه حتى لو قرأت مكتبة بأكملها »
ساد صمت للحظة، قبل أن يتنهد ويُكمل بنبرة أكثر هدوءا
« ألم تعلم بما حدث لي في نوفمبر الماضي؟ »
كلماته وقفت بيننا، ثقيلة، كأنها مقدمة لحديث لم أكن مستعدا لسماعه، ومع ذلك وجدت نفسي مشدودا إلى كل حرف نطق به. نظر إليّ بصمت، وابتسامة باهتة ارتسمت على شفتيه، لكن عينيه ظلّتا تحملان ذلك الثقل العميق… وكأن وراء سؤالي إجابة أعجز عن فهمها
نظرت إليه باستغراب وقلت بهدوء
« لا، لم أكن أعلم… أخبرني، ماذا حدث؟.. لقد حاولت الاتصال بك عشرات المرات، لكنك لم تكن ترد عليّ »
قلت ذلك ونبرة العتاب تختلط في صوتي بالقلق الذي خبأته طويلا. كنت أبحث في عينيه عن تفسير، عن كلمة تزيل هذا الغموض، لكنه ظل صامتا للحظة، كأن كلماتي أعادت إليه ذكرى ثقيلة يصعب نطقها. ثم تحوّل في جلسته ببطء، كمن يُهيئ نفسه لحديث طويل. اعتدل قليلا، وأطلق زفرة خفيفة كأنها تحمل بعضا من ذلك الثقل الذي يحمله، ثم قال بنبرة هادئة يكسوها ألم خفي
« ما سأرويه لك الآن ليس بالأمر الهيّن… لكنه حدث، وكان لا مفر منه »
نظرت إليه بهدوء وقلت
« خيرا إن شاء الله، ماذا حدث؟ »
كانت كلماتي بسيطة، لكنها تخفي قلقا دفينا ورغبة صادقة في معرفة ما يُواريه خلف ذلك الصمت الثقيل. تنهد تنهيدة طويلة، كأن أنفاسه تجر وراءها ثقل الأيام، ثم رفع عينيه إليّ وقال بصوت خافت تملأه مرارة التجربة
« أوَما بلغك ما حدث لي في نوفمبر الماضي؟… يا صديقي، لقد مت وعدت إلى الحياة. كنت قاب قوسين أو أدنى من أن أترك أطفالي أيتاما…لولا أن كتب الله لي عمرا جديدا »
كلماته سقطت كالصاعقة، ثقيلة ومربكة، كأنها خرجت من أعماق جرح لم يلتئم بعد
كنت أتأمله بعمق وأنا أستمع إلى حديثه، وعيناي تتأملانه بتمعن، أبحث في ملامحه عن أي أثر تركته الحادثة. همست له بتأثر عميق:
« على سلامتك يا صديقي العزيز… الحمد لله الذي حماك وأعادك إلينا سالما وإلى أطفالك »
تنهد بعمق، وكأن الذكريات تحاصر أنفاسه، ثم قال بصوت خافت
« كنت راجعا بسيارة المصلحة إلى البيت، وكان معي أحد زملائي في العمل. كنا متعبين… والطريق كانت طويلة ومملة. لم أنم الليلة السابقة، فأخذتني غفوة قصيرة دون أن أشعر، وفجأة اصطدمتُ بسيارة كانت متوقفة على الجانب الأيمن من الطريق »
سكت قليلا وكأن المشهد عاد أمام عينيه، ثم أكمل
« المقود ضربني بقوة في فم المعدة، وراسي ارتطم بلوحة القيادة. صاحبي… كان بجانبي، رأسه اصطدم كذلك بلوحة القيادة.، وفقدنا الوعي معا »
ارتعشت كلماته وهو يقول
« لم أشعر بشيء حتى فتحت عيني. ووجدنا أنفسنا في غرفة الإنعاش بالمستشفى المركزي »
شعرت بقشعريرة تسري في جسدي، نظرت إليه بقلق وقلت
« يا الله… الحمد لله على سلامتكما، كانت معجزة أنكما نجوتم من ذلك الحادث. كيف حالك الآن؟ وكيف حال صديقك؟ »
ابتسم بخفوت وقال
« أنا أفضل حالا الآن، لكن آثار الحادث ما زالت تؤلمني أحيانا. وصديقي… لا يزال يتعافى، لكنه أقوى مما ظننت »
كانت عيناه تحملان ثقلا عميقا، نظرات متشابكة كأنها تغوص في قاع لا قرار له. تنفس ببطء، وكأن الهواء نفسه يثقل على صدره، ثم قال بصوت خافت متكسر
» أتعلم؟ الارتطام لم يكن سوى لحظة عابرة… أما ما رأيته بعد ذلك فقد كان الحقيقة العارية التي لم أتوقعها… تلك اللحظة لم تكن مجرد تصادم حديد بحديد، بل كانت ارتطام روحي بحقيقة لم أكن مستعدا لها. انحرفت السيارة بعنف، واصطدمت بسيارة مركونة على الجانب الأيمن للطريق. أحسست بجسدي يتقدم للأمام بعنف، رأس معدتي اصطدم بالمقود بقوة، وألم حارق اجتاح صدري. الدم انساب على وجهي ببطء، والزجاج الأمامي تناثر كفتات جليد تحطم تحت وطأة الضرب، والعجلة الأمامية تدور ببطء، تُصدر صريرا يخترق الصمت. لكن الألم الجسدي لم يكن شيئا مقارنة بما تلا ذلك. فجأة، شعرت أنني أفلتُّ من جسدي، بدأت أصعد، أعلو كريشة في مهب الريح حتى وجدت نفسي معلقا على ارتفاع ثلاثة أمتار تقريبا. نظرت إلى أسفل، فرأيت جسدي مسنودا على المقود، وصديقي ينزف بصمت قاتل. كان المشهد ساكنا، مشبعا ببطء الموت
رأيتهم… خمسة أو ستة شباب يركضون نحونا، وجوههم مذعورة، أصواتهم متقطعة بين الصراخ والقلق. أحدهم كسر النافذة الخلفية بقبضته، وآخر ناضل لفتح الباب العالق. سمعتهم يصرخون: « اتصلوا بالإسعاف » ثم… انساب شريط حياتي أمامي في رمشة عين، لا كصور باهتة، بل كموجة جارفة من المشاعر. رأيت نفسي وأنا أجادلك في وجود الله، بعنادي وغروري، وكأنني كنت أهرب من الحقيقة. رأيت وجه البقال العجوز يطل من دكانه القريب، عيناه تتسعان بخوف وشفقة، وأدهشني أنني لم أره فقط… بل شعرت بما يشعر به. غمرني خوفه، تسربت مشاعره إلى قلبي كأنها لي. والأغرب… أنني رأيت كل شيء بوضوح لا يوصف، بزاوية 360 درجة، كل التفاصيل كانت حاضرة أمامي ومحيطة بي في آنٍ واحد. لم تكن مجرد ذكريات، بل كنت أعيشها، أشمها، أسمعها، كأنني ذبت في تفاصيلها. تدفقت الذكريات: ضحكات أمي، يد أبي الحانية، أولى خطواتي، لحظات الفشل والانتصار، خيباتي وانكساراتي. كانت تلك اللحظات أشد حضورا من أي وقت مضى. هناك، في ذلك الفراغ العالق بين الصعود والسقوط، أدركت هشاشتي. كم كنت ألهو في هذه الحياة وكأنني خالد. ندم عارم اجتاحني، وصرخت في داخلي أو ربما همست: « يا الله، امنحني فرصة أخرى… أطفالي صغار، من سيحملهم إذا سقطوا؟ من سيربيهم في هذا الزمن الصعب؟ »…ثم أحسست بجسدي يُنتشل إلى الأسفل، كأن الأرض اجتذبته بثقل رهيب. الهواء صار أثقل، الظلام زحف ببطء. فتحت عينيّ على أضواء سيارات الإسعاف المتراقصة، رجال يتحركون بعجلة، أحدهم يثبت عنقي، وآخر يضع قناع الأوكسجين على وجهي. لكن… لم أعد كما كنت. ما رأيته هناك كان أكثر واقعية مما هو هنا. لم يكن حلما أو وهما أو خيالا… كان حقيقيا، واضحا حتى الصدمة. لم تكن تجربة عابرة، بل كانت رسالة صارخة، دعوة لفهم أعمق لحقيقة تتجاوز الحياة ذاتها »
لم تكن هناك حاجة للكلام بعدها، الصمت كان أكثر بلاغة من أي حديث، كأنه نافذة مفتوحة على أسرار لم تُكشف بعد
بقِيتُ صامتا مذهولا مما رواه لي، بينما كان يُحدّق في وجهي بعينين تفتشان عن أثر كلماته في ذاتي، وكأنه يُريد أن يستشفَّ من ملامحي إن كنت قد صدّقته أم لا. كنت قد قرأت من قبل العديد من الكتب التي تناولت ظاهرة الاقتراب من الموت، وعلى وجه الخصوص كتاب الطبيب الأمريكي الشهير ريموند مودي « الحياة بعد الحياة » وكنت على دراية بما يحدث لأولئك الذين خاضوا تجربة الخروج من أجسادهم؛ رؤيتهم لأجسادهم من الخارج، عبورهم النفق الضوئي، لقاؤهم بأقارب فارقوا الحياة من قبل، ومقابلتهم لكائنات نورانية، وتأملهم في عالم ما قبل البرزخ. كنت أعلم أن ملايين البشر قد مرّوا بتلك التجربة، لكن أن يروي لي هذا الصديق بأنه عاشها بنفسه، ولو باختلاف في عمقها، فذلك أمر آخر تماما.
ابتسمت له، وقد عقدت العزم ألا أُظهر له تصديقي، وقلتُ بهدوء
« ربما كان ما رأيته انعكاسا للصدمة التي تعرضت لها. قد يكون عقلك قد نسج لك تلك المسرحية ليحميك من هول ما مررت به »
رمقني بنظرة فيها شيء من العتاب، وقال بصوت هادئ لكنه حازم
« كنت أعلم أنك ستقول هذا الكلام. ستُشكك في حديثي وتهمس في داخلك أن الموتى لا يعودون. لكنني أُؤكد لك… لقد غادرت جسدي ورأيتُني داخل السيارة. أنا متيقن أنني لم أكن أحلم ولم أكن أُهذِي… لقد رأيتُ كل شيء.. بل إن لديّ دليلا قاطعا على صدق ما أقول »
في تلك اللحظة، غمرني ارتعاش خفيف اخترق أعماقي، وتساءلت في داخلي
« إن تحدث عن البقال، فلا شك أن كلامه صادق. فالبقال هو العنصر الثابت في القصة. وإن أخبرني بأنه عاد إلى موقع الحادثة وتحقق بنفسه من ملامح البقال وتطابقها مع ما رآه، فوالله إنه لصادق »
نظرتُ إليه مستفسرا بعينيّ، كأنني أقول: « هات ما عندك. » فإذا به ينظر إليّ بحماس شديد، وقال: « تخيّل أنني عدتُ إلى مكان الحادثة بعدما تعافيت قليلا. طلبت من زوجتي أن ترافقني إلى ذات المكان حيث وقع الحادث. تفقدتُ المكان، وتأملتُ واجهة محل البقالة، ثم دخلت إلى المحل وتظاهرت بأنني أود شراء بعض الأشياء. وحين تأملت وجه البقال، سرت قشعريرة في بدني، إذ تأكدت يقينا أنه هو ذاته، بلحمه ودمه…قل لي… كيف لي أن أتعرف عليه لو لم أكن قد رأيته وأنا خارج جسدي لحظة الحادثة؟ تلك كانت فرصتي الوحيدة لأراه »
ابتسمتُ ابتسامة خفيفة وقلت له بنبرة مشوبة بالسخرية اللطيفة
« كنت أعلم أنك ستعود لتتأكد… فأنت لا تسلم إلا بما تثبته الحواس. قل لي، هل رفعت الستار وأبصرت الحقيقة؟ أم أنك لا تزال تطرق الظلام بعصاك كالأعمى؟ »
بادلني ابتسامة حملت بين طياتها شيئا من الانتصار الصامت، وكأن كلماتي نسجت اعترافا مستترا لم أشأ أن أبوح به. ومع ذلك، بقي السؤال معلقا بيننا: أحقا انفصل عن جسده؟ أم أن الحقيقة أعمق من أن ندركها في هذه الدنيا
وهكذا، خمدت الكلمات، وبقي الصمت وحده شاهدا على حوار لم يكتمل بيني وبينه لحد الآن